في كل مرة يسدل فيها الستارة على مشاركة تونسية في المسابقات الإفريقية، نعود إلى المربع الأول خيبة، تبريرات، ثم صمت ثقيل. لكن ما حدث هذا الموسم لم يكن مجرد إخفاق عابر، بل صفعة مدوية تستدعي وقفة وجودية فهل نملك فعلًا بطولة محترفة؟ أم أننا نعيش وهم الاحتراف في ملاعب بلا روح، وبنى تحتية بلا حياة، وتسيير أقرب إلى الهواية منه إلى الحوكمة؟
* من الملعب التونسي إلى المنستيري… سقوط المتصدر والوصيف
حين انسحب الملعب التونسي، متصدر البطولة الوطنية، أمام أولمبيك آسفي المغربي، صاحب المركز التاسع في البطولة المغربية، بمجموع 3-2، لم يكن الأمر مجرد خروج مبكر من كأس الكونفدرالية. كان ذلك إعلانًا صريحًا بأن ترتيبنا المحلي لا يعكس قوتنا القارية، وأن “الصدارة” في تونس لا تعني شيئًا حين نغادر حدود الوطن.
ثم جاء الدور على الاتحاد المنستيري، وصيف الموسم الماضي، الذي تلقى صفعة قاسية من شبيبة القبائل الجزائري، بخماسية كاملة مقابل هدف يتيم في مجموع مباراتي دوري الأبطال. فريقان من “النخبة” التونسية، يسقطان أمام فرق متوسطة في بطولات جيراننا. فأين الاحتراف؟ وأين التكوين؟ وأين الهيبة؟
* ملاعبنا… خرائب تنتظر الترميم
لنبدأ من الأرضية التي تُزرع فيها الأحلام: الملاعب. ملعب المنزه، رمز الكرة التونسية، ما زال ينتظر منذ سنوات بداية الأشغال بعد عملية الهدم الكلي. وملعب رادس، الذي كان يومًا مفخرة، أصبح اليوم عبئًا بصيانته المتعثرة وأرضيته المهترئة. في المقابل، تنظر إلى المغرب فترى ملاعب طنجة وأكادير والرباط والدار البيضاء، تحف معمارية تستضيف البطولات القارية والعالمية. الجزائر بدورها دشّنت ملاعب جديدة بمعايير عالمية، ومصر تملك بنية تحتية تليق بدولة تنظم كأس الأمم وتستضيف الأندية الكبرى.
و في تونس، ما زلنا نحتفل بترميم مدرج أو تغيير عشب، وكأننا نعيش في زمن ما قبل الاحتراف. كيف نطالب لاعبًا بالعطاء، وهو يركض على أرضية أقرب إلى الحقول منها إلى الملاعب؟ كيف نُقنع مستثمرًا بضخ أمواله في بطولة تُلعب في ملاعب بلا إنارة، بلا كراسي، بلا مرافق؟
* الاحتراف على الورق… والهاوية في الواقع
منذ إعلان “الاحتراف” في تونس سنة 2010، لم نرَ سوى تغيير في التسميات: “الرابطة المحترفة الأولى”، “عقود احترافية”، “لجنة تأديب”، لكن المضمون بقي هاويًا. الأندية تغرق في الديون، اللاعبون لا يتقاضون أجورهم لأشهر، النزاعات أمام الفيفا لا تنتهي، والجامعة تصدر قراراتها في غرف مغلقة دون شفافية أو محاسبة.
الترجي، رغم تاريخه، خسر مركزين في ترتيب الأندية الإفريقية، ليحتل المرتبة الخامسة بعد الأهلي والزمالك وبيراميدز ونهضة بركان. أما الملعب التونسي، فقد تراجع 12 مركزًا، والنادي الإفريقي 72 مركزًا، والاتحاد المنستيري 43 مركزًا. أرقام لا تكذب، بل تصرخ: نحن في انحدار.
* التكوين… غائب في زمن التكرار
أين مراكز التكوين؟ أين الأكاديميات؟ أين مشروع اللاعب التونسي؟ نُخرّج لاعبين بلا هوية، بلا أساس بدني أو ذهني، ثم نرميهم في معارك إفريقية شرسة، وننتظر منهم المعجزات. في المغرب، أكاديمية محمد السادس تُنتج لاعبين يحترفون في أوروبا، وفي الجزائر، مشروع “الفاف” بدأ يؤتي ثماره. أما نحن، فنعتمد على “الصدف” و”البركة”، ونُراهن على موهبة لم تُصقل، وعقل لم يُعدّ.
* الإعلام… بين التطبيل والتجاهل
الإعلام الرياضي في تونس، بدل أن يكون مرآة الواقع، أصبح أداة تلميع. نُشيد بفوز على فريق مغمور، ونُبرر الهزائم بـ”التحكيم” و”الظروف”، ونُهاجم من يجرؤ على النقد. لا أحد يطرح الأسئلة الحقيقية: من يُحاسب؟ من يُخطط؟ من يُموّل؟ من يُراقب؟
و الجامعة التونسية لكرة القدم، بدل أن تكون قاطرة الإصلاح، أصبحت جزءًا من الأزمة. قرارات ارتجالية، صراعات داخلية، غياب الشفافية في التعيينات والتحكيم والبرمجة. لا رؤية واضحة، لا مشروع طويل المدى، فقط إدارة يومية للأزمات، وردود أفعال متأخرة.
* الجماهير… بين العشق والخذلان
الجمهور التونسي، رغم كل شيء، ما زال يُحب الكرة. يملأ المدرجات حين يُسمح له، يتابع، يناقش، يحلل، ويغضب. لكنه اليوم يشعر بالخيانة. كيف يُطلب منه الولاء، وهو يرى فريقه يُهان قاريًا؟ كيف يُطلب منه شراء التذاكر، وهو لا يجد مقعدًا نظيفًا أو مرحاضًا صالحًا؟ كيف يُطلب منه الصبر، وهو يرى جيرانه يتقدمون، وبلاده تتراجع؟
* الحلول… هل نملك الشجاعة؟
لا يكفي أن نُغيّر المدرب بعد كل هزيمة، أو نُقيل مسؤولًا بعد كل فضيحة. نحتاج إلى ثورة حقيقية في البنية التحتية و خطة وطنية لإعادة تأهيل الملاعب، بمقاييس دولية، وبشراكة مع القطاع الخاص ، الحوكمة بفرض الشفافية في تسيير الأندية، وربط الدعم العمومي بالنتائج والمحاسبة مع التكوين و إحداث أكاديميات جهوية، وربطها بالأندية، وتكوين الإطارات الفنية أيضا الإعلام و دعم الصحافة الجادة، وتشجيع النقد البناء، وفتح الملفات المسكوت عنها ، القوانين و مراجعة قوانين الاحتراف، وضمان حقوق اللاعبين، وتنظيم سوق الانتقالات مع إعادة هيكلتها، وفصلها عن التجاذبات السياسية، وتكريس استقلاليتها.
* نحو بطولة تُشبهنا… أو نُشبهها؟
الاحتراف ليس شعارًا، بل منظومة. ليس لافتة على الورق، بل عقلية تُترجم في كل تفصيلة: من أرضية الملعب إلى عقلية اللاعب، من شفافية التسيير إلى احترام الجمهور.
نعم، لدينا مواهب. نعم، لدينا جمهور عاشق. نعم، لدينا تاريخ. لكننا نفتقد إلى مشروع، إلى إرادة، إلى شجاعة الاعتراف بأننا لسنا محترفين… بل هواة في قميص محترف.
بطولتنا ليست فقط رياضة، بل مرآة تعكس حال البلاد: بنية تحتية مهترئة، تسيير مرتجل، إعلام موجه، وجمهور يُحب أكثر مما يُحَب. فهل نملك الشجاعة لننظر في المرآة؟ أم نواصل تلميع الزجاج المتشقق؟
الكرة في ملعبنا… لكن هل نملك الشجاعة لنركلها في الاتجاه الصحيح؟
