في زمنٍ تُقاس فيه البطولات بعدد الميداليات، تُثبت السباحة التونسية أن المجد لا يُصنع فقط في المسابح العالمية، بل يبدأ من أحواض الوطن، حيث يُصقل الأبطال وتُولد الأساطير. نهاية أسبوع استثنائية شهدتها بطولة السباحة الوطنية، كان فيها الترجي الرياضي التونسي نجمًا فوق العادة، وكان ياسين بن عجمية عنوانًا لموهبة لا تُخطئها العين.
الترجي… سيطرة مطلقة وإنجاز غير مسبوق
بقيادة فنية محكمة من رئيس الفرع هشام النجار، فرض الترجي الرياضي التونسي هيمنته المطلقة على البطولة، محققًا اللقب في جميع الفئات العمرية. هذا الإنجاز الجماعي لا يُعد مجرد تتويج رياضي، بل هو ثمرة عمل مؤسساتي طويل، يُترجم سنوات من التكوين القاعدي، والتخطيط الفني، والاستثمار في المواهب الصاعدة.
الترجي، الذي لطالما كان مدرسة رياضية متعددة الاختصاصات، يُثبت اليوم أن السباحة ليست استثناءً، بل جزء من مشروع رياضي متكامل. فأن تهيمن على بطولة وطنية في كل الفئات، يعني أنك تملك رؤية، بنية تحتية، وإطارًا فنيًا يُراهن على المستقبل، لا فقط على النتائج اللحظية.
بن عجمية… حين يتكلم الماء بلغة الذهب
السباح الواعد ياسين بن عجمية (مواليد 2012/2013 – سباحة على الظهر) خطف الأضواء بتحطيمه أربعة أرقام قياسية تونسية، بينها رقم صمد 12 عامًا. في سباقات 50م، 100م، و200م، أثبت بن عجمية أن الموهبة لا تنتظر النضج، بل تفرض نفسها حين تُمنح الرعاية والثقة.
مدربه أمير الشريف، الذي رافقه فنيًا منذ ثلاث سنوات، عبّر عن فخره قائلاً “بن عجمية دائمًا يحقق نتائج جيدة، لكن هذه السنة أثبت قوته وجودته كسباح مميز، وحطّم أرقامًا مهمة. واليوم، وهو في عمر 13 سنة فقط، تأهل إلى البطولة العربية.”
ما يميز بن عجمية ليس فقط الأرقام، بل الشخصية الرياضية التي بدأ في تشكيلها: الانضباط، الطموح، والقدرة على المنافسة تحت الضغط. هذه الصفات لا تُصقل في يوم، بل هي نتاج بيئة تدريبية سليمة، ودعم نفسي وفني متواصل.
المزوغي… فراشة تُحلّق نحو المستقبل
في سباقات الفراشة، برز السباح ياسين المزوغي (مواليد 2008/2009) بأداء قوي في سباقي 100م و200م، مؤكّدًا حضوره بين أبرز السباحين الشباب. المزوغي لا يُمثل فقط موهبة فردية، بل يُجسّد جيلًا جديدًا من السباحين الذين بدأوا يفرضون أنفسهم على الساحة الوطنية، ويطمحون للعب أدوار إقليمية ودولية.
و هذا الحضور المتنوع للمواهب في البطولة يُشير إلى أن السباحة التونسية ليست رياضة نخبوية، بل مجال مفتوح للتطور، شرط أن تتوفر له الرعاية والاستمرارية.
الجوادي… حضور يُلهم ويُحفّز
اليوم الختامي للبطولة شهد لحظة مؤثرة بحضور البطل العالمي أحمد الجوادي، الذي قلّد الفائزين ميدالياتهم، في لفتة رمزية تُجسّد تواصل الأجيال، وتُرسل رسالة واضحة: الطريق من أحواض تونس إلى المنصات العالمية ليس مستحيلاً، بل يبدأ من حلم، ويُصقل بالإصرار.
فالجوادي، الذي رفع راية تونس في المحافل الدولية، لم يأتِ فقط لتكريم الفائزين، بل ليُذكّر الجميع أن البطولة لا تُقاس فقط بالزمن، بل بالقدوة. وجوده في هذا الحدث يُعيد الاعتبار للرموز الرياضية، ويُحفّز الجيل الجديد على الإيمان بأن النجاح ليس بعيدًا، بل يبدأ من هنا، من المسابح المحلية.
السباحة التونسية… إنجازات يُقابلها غياب الاستراتيجيات
ورغم هذا الزخم من الإنجازات، تبقى السباحة التونسية رياضة مهمّشة إداريًا وإعلاميًا. لا تغطية كافية، لا دعم مؤسساتي مستدام، ولا رؤية وطنية تُعطي هذه الرياضة حقها. فهل يُعقل أن تظل السباحة في الظل، بينما أبطالها يُضيئون اسم تونس في المحافل الدولية؟
و الإهمال لا يقتصر على الميزانيات، بل يمتد إلى غياب استراتيجية وطنية لتطوير الرياضات الفردية، وتهميش الإعلام لها لصالح كرة القدم. هذا التفاوت في الاهتمام يُضعف الروح الرياضية، ويُقلل من فرص اكتشاف المواهب في وقت مبكر.
ما الذي يجب فعله؟
للنهوض برياضة السباحة، لا يكفي الاحتفاء بالميداليات. المطلوب وضع خطة وطنية لتطوير المسابح وتوفير التجهيزات و دعم الأندية مادّيًا ومعنويًا لتوسيع قاعدة الممارسين ، إدماج السباحة في البرامج المدرسية والجامعية ، تكوين إعلام رياضي متخصص يُسلّط الضوء على الرياضات الفردية و خلق شراكات مع اتحادات عربية ودولية لتبادل الخبرات.
هذه الخطوات ليست ترفًا، بل ضرورة إذا أردنا أن نُحوّل الإنجازات الفردية إلى مشروع وطني متكامل.
و لا يمكن أن نغفل عن تحية كل الأندية والسباحين الذين شاركوا في البطولة، وقدموا أداءً متباينًا، لكنه يُعبر عن حيوية المشهد الرياضي. فالتنافس الشريف، والتكوين المستمر، هما أساس بناء قاعدة رياضية تُثمر أبطالًا في المستقبل.
السباحة… رياضة تصنع الوطن
في النهاية، السباحة ليست فقط رياضة، بل مدرسة في الصبر والانضباط والتحدي. حين يُهملها الإعلام، وتُقصّر في حقها المؤسسات، فإننا لا نُهمل رياضة فقط، بل نُهمل فرصة لصناعة مواطنين أقوياء، ورفع راية تونس في المحافل الدولية.
من بن عجمية إلى الجوادي، ومن الترجي إلى كل نادٍ شارك، تُثبت السباحة التونسية أنها تستحق أكثر من مجرد تصفيق موسمي. إنها تستحق مشروعًا، رؤية، واحترامًا يليق بمن يسبحون في الماء ليصنعوا المجد.